الأستاذ
بقلم د/ نبيل فاروق
كل من عمل في أي جهاز مخابرات بعده أطلق عليه هذا
اللقب..
لقب (الأستاذ).
كلهم اعترفوا بعبقريته في هذا المجال..
مجال الجاسوسية.
جميعهم اتخذه مثلا في الذكاء وهوء النفس وسرعة التفكير
والتدبير.
ما من جهاز مخابرات في العالم أجمع لم يدرس قصته ويشرحها
لكل رجل لديه..
إنه المثل والقدوء، بغض النظر عن جنسيته وانتمائه..
إنه (ريتشارد سورج).
ولكن من هو؟؟
دعونا نعود إلى البداية..
إلى ألمانيا، ما قبل الحرب العالمية الثانية..
هناك، وفي خضم الصراعات السياسية التي انتهت بانتقال
السلطة إلى الجزب النازي، بقيادة (أدولف هتلر)، كان يقف رجل نحيل طويل هادئ
الملامح، صاحب نظرات نفاذة لا يمكنك منعها من اختراق أعماقك وسبر أغوارك، ولا
يمكنك أمامها، في الوقت ذاته، إلا أن تحترم صاحبها وتشعر بالميل لمصادقته..
كان هذا الرجل هو (سورج)..
لم يكن (سورج) أبدا من مؤيدي الحزب النازي أو محبيه، إلا
إنه، وعلى الرغم من هذا، كان يحمل بطاقة صحفية، تنسبه إلى واحدة من أكبر الصحف
المتحدثة بلسان هذا الحزب، وكانت مقالاته وتحليلاته السياسية فيها أنيقة بارعة،
لفتت إليه أنظار قادة الحزب، ونالت إعجابهم بها وبشخص كاتبها إلى حد كبير، حتى إن
(جوبلز)[1] نفسه قد أعلن تقديره لـ(ريتشارد سورج)..
ولما كان من النادر أن يبدي وزير الإعلام النازي تقديرا
أو إعجابا لشخص ما، باستثناء (أدولف هتلر) نفسه، فقد أكسب هذا التقدير (سورج) شهرة
واسعة وثقة أكثر قوة.
وفي إطار التعاون والتقارب الياباني، صدر قرار بتعيين
(سورج) ملحقا صحفيا في السفارة الألمانية في اليابان، على أن يعمل في الوقت ذاته
كمراسل لجريدته هناك.
وفي منتصف عام 1935 انتقل (سورج) إلى اليابان، وتسلم
عمله في السفارة الألمانية هناك، وعلى عكس المألوف في تلك الآونة، لم يُقِم (سورج)
في واحدة من حجرات السفارة، وإنما استأجر لنفسه فيلا صغيرة، تبعد عدة كيلومترات
عنها.
وقبل أن يتطرق الشك إلى قلوب المسئولين بسبب هذا الإجراء
غير المألوف، كان (سورج) قد احتواهم بشخصيته الجذابة، ووضع أمامهم تفسيرا عمليا
لما فعل، إذ بدا أمامهم شخصية اجتماعية محبة لإقامة الحفلات والسهرات الأنيقة
الجميلة، وراح يدعو الجميع إلى حفلاته ويوطّد علاقاته بهم، حتى صار واحدا من أبرز
رجال المجتمع في اليابان، بل وحظي بمنصب المترجم الرسمي لوزير الحرب الياباني.
وفي نفس الوقت كان (سورج) يواصل إرسال مقالاته وتحليلاته
السياسية إلى ألمانيا، حيث لاقت مزيدا من الشهرة والاهتمام، وأصبح اسم (سورج) أشبه
بنجم متألق في سماءي ألمانيا واليابان.
ولكن لم ينتبه أحد، طوال هذا، إلى الوجه الآخر
لـ(ريتشارد سورج)..
الوجه السوفيتي..
لقد كان (سورج) جاسوسا سوفيتيا، يعمل منذ البداية لحساب
السوفيت ضد النازية، ولم يكن كل ما يفعله سوى ستار قوي أنيق يخفي به انتماءه
الحقيقي.
واعتبارا من عام 1936 بدأ (سورج) تكوين شبكته، التي
يعتبرها خبراء حرب المخابرات واحدة من أقوى شبكات التجسس في التاريخ، باستثناء
الشبكة التي أقامها (رفعت الجمال)، الشهير باسم (رأفت الهجان)، والتي لم يتم كشفها
قط.
وتكونت شبكة (سورج) من خمسة من اليابانيين، في نظام بالغ
الدقة، بحيث يبلّغ كل منهم ما لديه من معلومات إلى (سورج) نفسه، الذي ينتظر حتى
تنتهي حفلاته ويرحل مدعوّوه إلى منازلهم، ثم يهرع إلى جهاز لاسلكي خاص يخفيه في
حجرة نومه، ويرسل المعلومات بالشفرة إلى موسكو.
وفي عام 1939 اشتعلت الحرب العالمية الثانية، وراح هتلر
يجتاح أوروبا بجيوشه، وانهمرت مقالات (سورج) الحماسية على الصحف النازية، في نفس
الوقت الذي نشطت فيه شبكته لتدمير النازية نفسها ونقل كل أسرارها إلى السوفيت.
وعلى الرغم من أن السوفيت كانوا يرتبطون مع (هتلر) في هذا
الوقت بمعاهدة عدم اعتداء، إلا أنهم كانوا يعلمون ويدركون خطأ الاعتماد على معاهدة
مع النازية، التي تضع على رأس أهدافها فكرة القضاء على الشيوعية، لذا فقد طلبوا من
(سورج) تكثيف نشاطه والانتباه إلى كل ما يحدث حوله.
وحدث ما توقعه السوفيت..
لقد انتفخت أوداج (أدولف هتلر) بانتصاراته المتوالية
وهزائمه الساحقة لدول أوروبا، فقرر القفز إلى الهدف الرئيسي دفعة واحدة.
ووضع هتلر خطته المعروفة باسم (بارباروسا)، أو (ذو
اللحية الحمراء)، للانقضاض على السوفيت واحتلال أرضهم وتدمير الشيوعية في مهدها.
ويا ليته نجح!
"البقية في المقالة القادمة"
[1]
بول يوزِف غوبلز، (29 أكتوبر 1897 -1 مايو 1945)، سياسي نازي ألماني ووزير
الدعاية في ألمانيا النازية من عام 1933 إلى عام 1945. كان أحد أقرب شركاء الزعيم
النازي أدولف هتلر وأكثرهم تفانيًا، وكان معروفًا بمهاراته في التحدث أمام الجمهور.
كانت نهايته مع نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث انضمت إليه زوجته ماجدة وأطفاله
الستة في برلين. في مخبأ تحت الأرض. ووفقًا لإرادة هتلر، خلفه غوبلز كمستشار
لألمانيا، حيث خدم يوما واحدا في هذا المنصب. في اليوم التالي، انتحر غوبلز وزوجته
بعد تسميم أطفالهما الستة بالسيانيد.
إرسال تعليق